معتقلات السودان المظلمة- انتهاكات، تعذيب، وموت خلف الأبواب

المؤلف: عزمي عبد الرازق11.01.2025
معتقلات السودان المظلمة- انتهاكات، تعذيب، وموت خلف الأبواب

في الأيام العصيبة التي أعقبت اندلاع الحرب، قامت قوات الدعم السريع باقتحام دور التوقيف في العاصمة السودانية الخرطوم بضراوة، وأطلقت العنان للمعتقلين قاطبة. وتخيل معي عزيزي القارئ، أن من بين هؤلاء المفرج عنهم، أباطرة تجارة السموم، ولصوص محترفون، ومجرمون محكوم عليهم بالإعدام قصاصًا لما اقترفت أيديهم! ولكن يا للغرابة، تلك السجون التي أُخليت تمامًا من قاطنيها من ذوي السوابق، أُعيد افتتاحها من جديد، لتتحول إلى معتقلات مستحدثة للأسرى والمختطفين، قبل أن يتم نقلهم قسرًا إلى معتقلات أخرى سرية، تخيم عليها أجواء من الكآبة والظلام الدامس، وتحوم فوقها أشباح الموت في كل لحظة، ولا يدري الداخل إليها متى وكيف سيخرج منها سالمًا.

انتهاكات خلف الأبواب الموصدة

هذا هو الوضع المأساوي إذن، فبمجرد عبورك من نقاط التفتيش التابعة لقوات الدعم السريع، قد تصبح فريسة للشكوك وسوء الظن والتفتيش القسري، وربما تُتهم زورًا وبهتانًا، ودون أي مسوغ قانوني، بأنك عميل "استخبارات" أو "فلولي"، وهي كلمة مطاطة وفضفاضة تشمل كل من لا يوالي قوات الدعم السريع، وبالتالي يصبح من حقهم سلب حريتك، أو قتلك بدم بارد، أو اقتيادك إلى مكان مجهول، وتعذيبك بكل قسوة وعنف، دون أن تُمنح فرصة التزام الصمت، أو التحدث فقط بحضور محاميك الذي يضمن حقوقك.

هذا السيناريو يتكرر يوميًا، حيث يتم اعتقال المئات من الأشخاص بشكل عشوائي، سواء في الشوارع أو من داخل منازلهم، أو حتى عندما يعترضون على سرقة ممتلكاتهم، فيُزج بهم في سجون تحت الأرض قاسية، أو في أحد أقبية الأبراج المهجورة، حيث لا توجد كهرباء ولا ماء، ولا يتسرب الهواء النقي من أي نافذة، لتعكس لنا صورة قاتمة لحياة كاملة مُنتهكة خلف تلك الأبواب المحكمة الإغلاق.

أشهر وأسوأ المعتقلات

لا أحد يعلم على وجه اليقين أين تقع تلك السجون، ومن يقبع بداخلها، ولكن وفقًا لتقرير صادر عن "محامي الطوارئ" في السودان، فقد أحصى 44 مركز اعتقال تابعًا لقوات الدعم السريع في الخرطوم وحدها، بالإضافة إلى 8 مراكز اعتقال تابعة للجيش، وتحدث عن وجود مراكز اعتقال مؤقتة يتم فيها تجميع المعتقلين، في مبانٍ سكنية أو منشآت مدنية، قبل أن يتم تصنيفهم ونقلهم إلى مراكز الاعتقال الدائمة، والتي تتميز بقسوة وظروف معيشية بالغة الصعوبة.

تكاد تتشابه روايات الناجين من تلك الاعتقالات – بعد أن أُجبروا على دفع مبالغ مالية باهظة، أو بعد فرار أفراد الحراسة جراء الغارات الجوية – حول الأوضاع المأساوية لتلك المعتقلات سيئة السمعة. ففي أحد هذه المعتقلات، يحتجز نحو 500 شخص في مكان ضيق لا يكاد يتسع لنصفهم، وهو في الواقع مجرد "قبو" تحت عمارة سكنية، يفتقر إلى التهوية المناسبة، ولا توجد فيه مراحيض، وتغمره الرطوبة العالية في بعض الأحيان، لدرجة تصعب فيها عملية التنفس، وهذا الوضع لا يختلف كثيرًا عن بقية المعتقلات، فهي مجرد سجون تفترس فيها أظافر الموت ضحاياها بين الحين والآخر، والسمة الغالبة فيها هي الإساءات العنصرية والتمييز.

من بين أشهر تلك المعتقلات: معسكر هيئة العمليات بضاحية الرياض، ومباني حي المطار، والمدينة الرياضية، وأبراج ومساكن وسط الخرطوم، ومبنى جامعة السودان المفتوحة، ومكتب الوحدة الإدارية بضاحية الحاج يوسف شرقي الخرطوم، و17 مبنى في محطة الكيلو بالحلفايا شمالي الخرطوم بحري، ومعسكر طيبة جنوب الخرطوم، بالإضافة إلى قسم الدرجة الأولى، وسجن سوبا، وقسم أبو آدم، ومباني جوار مركز عفراء وجسر المك نمر في الخرطوم، على سبيل المثال لا الحصر.

إن كثرة هذه المعتقلات تدل بوضوح على الأعداد الهائلة من المدنيين والعسكريين الذين يقبعون داخلها، وتشير بعض التقارير إلى وجود أكثر من 10 آلاف مواطن في معتقلات الدعم السريع، من بينهم كبار السن والمتقاعدون والأطفال وذوو الاحتياجات الخاصة، والمرضى النفسيون، أو من أصيبوا بالجنون نتيجة لما تعرضوا له من صنوف التعذيب والإهانة. وتفيد التقارير بوفاة ما يقرب من ثلاثة آلاف معتقل بسبب التعذيب والجوع والقصف العشوائي، وقد تم دفنهم في مقابر جماعية، كشفت صور الأقمار الصناعية عن بعضها.

مُعتقلات سياسية

توجد أيضًا معتقلات سرية أُعدت خصيصًا لاحتجاز السياسيين وكبار ضباط الجيش، وعلى رأسهم المفتش العام للجيش الفريق مبارك كجو، والقيادي بالمؤتمر الوطني أنس عمر، والدكتور محمد علي الجزولي الأمين العام لتيار نصرة الشريعة ورئيس حزب دولة القانون. وقد ظهر هؤلاء جميعًا في مقاطع فيديو قصيرة في الأيام الأولى لاختطافهم، وهم يدلون باعترافات بدا واضحًا أنهم أُجبروا عليها، ثم اختفوا بعد ذلك. وقد اتُهمت قوات الدعم السريع بتصفية المفتش العام، والذي كان حميدتي يريده أن يذيع البيان الأول لانقلابه، بهدف إقناع الرأي العام بأن هذا الانقلاب قد تم بالتنسيق مع ضباط في الجيش. وتمتلئ هذه المعتقلات أيضًا، سواء كانت تابعة للجيش، كالمشافي المحروسة، أو تابعة لقوات الدعم السريع، بالعشرات من قادة ورموز وأعضاء النظام السابق.

الدكتور الرشيد محمد إبراهيم، أحد الذين أُفرج عنهم مؤخرًا من معتقلات الدعم السريع، روى لنا وقائع مروعة داخل تلك المعتقلات، حيث ذكر أن استخبارات الدعم تجبر من تطلق سراحهم على القسم بالمصحف الشريف، بألا يفشوا أي سر شاهدوه في المعتقل، بما في ذلك مصير رفاقهم الذين قضوا نحبهم تحت التعذيب.

كما أن الوضوء كان ممنوعًا، وكان يُسمح لهم فقط بالتيمم على الجدران، وكذلك كان الاغتسال أيضًا ممنوعًا، ومن يُقبض عليه وبحوزته زجاجة ماء يتعرض للجلد. وقد شاهد الدكتور الرشيد عشرات الجثث حوله، لأشخاص فارقوا الحياة ببطء، والكثير منهم قد مر عليهم أيام وهم أموات دون أن ينتبه إليهم أحد، حيث لا تتوفر الأدوية اللازمة لأصحاب الأمراض المزمنة، ولا الطعام الذي يسد رمقهم، وكل شيء هناك مُعد لخلق المعاناة واليأس.

نساء في سجون الحرب

إن ممارسة التعذيب والمعاملة القاسية هي الصورة الأكثر شيوعًا داخل تلك المعتقلات، ولا تحظى النساء، ضحايا عمليات الاختطاف، بمعاملة أفضل، حيث يتم اقتيادهن تحت تهديد السلاح إلى داخل المعسكرات، وتُعصب أعينهن، وتتحول أجسادهن إلى ساحة للعنف والمعارك الجنسية، وهو ما أشار إليه بيان مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، بالاستخدام الوحشي والواسع النطاق للاغتصاب وغيره من أشكال العنف الجنسي من قِبل قوات الدعم السريع.

وقد أفادت التقارير التي وردت إليهم بأن العديد من النساء والفتيات قد تعرضن للاختفاء القسري وأعمال ترقى إلى حد إجبارهن على السخرة والاستغلال الجنسي. وما لم يذكره التقرير، هو أن العديد من الفتيات قد خرجن من تلك المعتقلات في أوضاع حرجة، وصلت إلى حد الحمل، بعد أن تناوب عليهن عشرات الجنود بصورة سادية.

يبدو أنه لا أحد يكترث بالقيم الإنسانية التي تُهان وتُداس في سجون الحرب، كما أن تلك الاعتقالات المتواصلة قد خلفت الكثير من الأحزان والمآسي في البيوت، التي فقدت من يعولها، وهناك، بالمرة، من لا يعرفون مصير أبنائهم. والأخطر من ذلك أنه لا توجد حتى الآن عمليات منظمة لتبادل الأسرى، ولا توجد أي رقابة على تلك السجون البشعة، أو تصنيف لمن هم بداخلها، حتى يتسنى التعامل معهم بشكل إنساني. وهذا بالضرورة يتطلب المزيد من الاحتجاج والتصعيد من قِبل أهالي المعتقلين والمنظمات الحقوقية، من أجل وضع حد لمعاناة هؤلاء السجناء، ومعاقبة كل من ينتهك آدميتهم دون وجه حق.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة